أسباب تأثير القرآن في النفس الإنسانية (منقول)
تكمن وراء تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية أسباب كثيرة، يمكن إجمال أبرزها في الآتي:
أولاً: قدسية ألفاظه:
أول ما يسترعي انتباه تالي القرآن المهابة والجلال والقدسية التي يشعر بها هو ومَن يستمع له على حدٍّ سواء؛ فهو يدرك أنه ليس كلام بشر، وأن له سلطاناً على النفوس فوق الإرادة، بل فوق الشعور. "إن في هذا القرآن سرّاً خاصّاً يشعر به كل من يواجه نصوص القرآن ابتداءً قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيه، إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هنالك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هنالك عنصراً ينسكب في الحسِّ بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحاً ويدركه بعض الناس غامضاً، ولكنه على كل حال موجود، هذا العنصر الذي ينسكب في الحسّ، يصعب تحديد مصدره، أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها تشمل ما تقدم وشيئاً آخر وراءها غير محدود! ذلك سرٌّ مودع في كل نصٍّ قرآني يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداءً ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله" (1).
فالقرآن له سلطان الجلال والمهابة...
يستولي على قلوب المخاطبين استيلاءً "كالقهر وما هو بالقهر، له فعل في القلوب كالسحر وما هو بالسحر، لا يختص ذلك بالأنصار دون الخصوم، ولا بمحالفيه دون مخالفيه، بل يغزو القلب من حيث لا يمكن لصاحبه رد، ويؤثر فيه من حيث لا يمكن دفع، أثّر في الأعداء كما أثّر في الاتباع" (2). وبهذا يمكن تفسير مقولة جبير بن مطعم حين استمع لآيات من سورة الطور: "كاد قلبي أن يطير" (3)، وبهذا يفسّر استيلاء القرآن على مشاعر صناديد قريش (4)، حين خرجوا في جنح الليل المظلم طلباً لسماعه.
هذا هو السلطان الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. قال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
"وحين نتأمل خطاب القرآن نجد ملكاً له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطَّلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق.. فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجّد نفسه ويحمد نفسه وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه.. ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.. فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً جميلاً هذا شأنه فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه ويكون أحبّ إليها من كل ما سواه؟!.. وكيف لا تلج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها؟! بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها" (5).
نعم للقرآن هيبة وجلال. يقول ابن القيم: ".. قد تجلى الله فيه لعباده وصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس وتخشع الأصوات ويذوب الكِبْر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال.. فيستنفد حبه من قلب العبد، قوة الحب كلها.. فهو سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، الشوق إلى لقائه والأنس والفرح به والسرور بخدمته والمنافسة في قربه والتودد بطاعته واللهج بذكره والفرار من الخلق إليه ويصير هو وحده همّه دون سواه، ويوجب له شهود الربوبية والتوكل عليه والافتقار إليه والاستعانة به والذل والخضوع والانكسار له، وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في
إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزّه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره.."، ثم يكمل ابن القيم حديثه حول هذه الهيبة قائلاً: "وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين؛ أشهدك ملكاً قيوماً فوق سماواته على عرشه، يدبّر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعّال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلاّ بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلاّ بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع" (6).
فالمقبل على قراءة القرآن يلمس أن الخلائق جميعها في قبضته سبحانه، وتحت قهره وسلطانه، يقرأ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]، لا يخرج شيء من خلقه عن أمره، وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، و{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، و{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، و{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، يعطي ويمنع.. فالهيبة والقدسية يكمن وراءهما سرّ هذا التأثير، ولهذا وجدنا الإمام
الغزالي ذكر من أعمال الباطن في التلاوة: "التعظيم للمتكلم: مشيراً إلى أن القارئ يجب أن يستحضر عظمة المتكلم، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه سبحانه قال: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، ولا يتأتى ذلك إلاّ بالتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله" (7).
والجدير بالذكر أن هذه القدسية والمهابة لا يشعر بها من يفهم لغة القرآن فحسب بل كل من يسمع له، وقد تجسّدت هذه المهابة في صريح بعض الآيات كقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، وانظر جمعاً من الآيات أشارت إلى تلك القدسية: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2]، و{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، كيف لا تشعر النفس بتلك المهابة وهي تقرأ أن كل شيء في الوجود يُسَبِّح بحمده: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، حيث تشعر النفس بضآلة وجوده أمام هذه المخلوقات، فالقرآن يجعل تاليه ومستمعيه في جو نفسي مهيب، تلك هي خاصية الكتاب المبين، إن أقبل على قراءته أدرك أنه يناجي ربه.. تجده يسمع قول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
وذلك أحد وجوه إعجازه.
ثانياً: تناغم ألفاظه وجرسه الموسيقي وبناؤه الهندسي:
هذه الخاصية قد تعد من أكثر الخصائص وأقوى الأسباب في التأثير؛ ذلك أنه يحس بها البشر كلهم بِغضِّ النظر عن لسانهم ولغتهم، فهذه الخاصية شيء فوق معانيه. إن من طبيعة الإنسان أنها تطرب للنغم وتتأثر بالكلام الموزون، بل ربما يوحي النغم والإيقاع إلى الأسماع ما لا يستطيعه الكلام، يشترك في هذا التوازن كل حرف من كتاب الله، بل كل حكم من أحكام التجويد، حتى رسم الكلمة يوحي بظلاله على هذا الاتزان والانسجام، والفواصل أبرز هذه الجوانب.
ثالثاً: وفاؤه بحاجات البشرية ومزجه بين كلام الله وكلام العباد (مسايرته للنفس البشرية):
يلمس تالي القرآن هذه الخاصية في كل آية من آياته، فالقرآن يخاطب العباد بخطاب يلمس إنسانيتهم، ويقف بهم على طبيعتهم، ويستخرج كنوز فطرهم ومكنون أسرارهم؛ فهو واقعي، "انظر الأسلوب الغالب على آياته؛ تجده يجمع في الوقت نفسه بين الضمير العائد إلى عظمته عز وجل وبين الضمير العائد إلى المخاطبين، كقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
هذا المزج يبقي الإنسان موصولاً مشدوداً إليه، يشعره بأنه خطاب له بعينه، لا حديثاً لأقوام سَلَفَت، بل هو المعنيّ بألفاظه، وكيف لا يتأثر المرء وهو يسمع قوله تعالى يستثير فيه عاطفة إيمانه، ويقف به على حقيقته: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} [الحديد:16]، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، فهي صفة غالبة على آيات القرآن تلمس الوجدان، ولعل ما يزيد المرء من الإقبال على كلام رب العالمين، تلك النزعة الإنسانية التي يلمسها القارئ في آياته، حيث لا يشعر القارئ لكتاب الله أو المستمع لآياته أنه بعيد عنه.
فالذي يقرأ القرآن يلحظ تدرج القرآن وانسجامه مع فطرة الإنسان، يلمس مسيرة القرآن لشؤون النفس الإنسانية، ويدرك أنه يتغلغل في شعابها وجوانبها مما لم يهتد إليه العلم إلاّ حديثاً، فتجد أن ما يقدمه القرآن من حلول لمشكلات النفس الإنسانية تتجاوب إليه النفوس وتستريح له الأفئدة وتطمئن له القلوب.
إن من أسرار القرآن الكريم أنه يمسك بأحوال النفس الإنسانية كلها ويجئ إليه بما يناسب كل حال منها في مواجهته للأحداث وفي تصورها لها وإحساسها بها (
.
والقرآن في كل ما يصدر فيه من أوامر ونواه وعقيدة وأخلاق، وتشريع وعظات إنما يقدم من ذلك كله ثوباً قد فصّل على قدر الحقيقة الإنسانية كلها أينما وجدت، وكيفما تنوعت (9)، ففي موضوعاته تتجلى تلك النزعة الإنسانية حيث تجدها تخاطب الإنسان وتحل مشكلاته وتعرض لحاجاته وتلبي متطلباته، وفي أسلوبه الذي عمَّ الخطاب فيه يشمل الإنسان، كل بني الإنسان.
وهو في خطابه وتشريعاته يراعي ميول النفس الإنسانية ويساير طبيعتها ويتدرج في علاجها، وهذه سمة غالبة في التشريعات التي تم التدرج فيها، كتحريم الخمر في جانب النواهي أو تشريع الجهاد في جانب الأوامر، ولعل المثال يفي بالمقال في هذا المقام:
إننا لو تأملنا الآيات الآمرة بالقتال سوف نلمس تلك المسيرة القرآنية لطبيعة النفس الإنسانية بشكل واضح جدّاً، فالله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فقد احتاجت معالجة الطبيعة الإنسانية هذه في هذا المقام إلى عدة أمور:
- بيان أن القتال فريضة مكتوبة.
- أن القتال أمر تكرهه النفس الإنسانية، "وهذا الاعتراف فيه فائدة تمهيدية لعلاج النفوس من هذه الكراهية، فالنفس تأنس بالحديث الذي فيه اعتراف بالحقيقة حتى ولو كان شاقّاً على النفس، وبهذا تكون طريقة تربوية قائمة على الصراحة وعدم الهروب من مواجهة الواقع" (10).
- بيان أنه ليس كل ما تكرهه النفس شرّاً دائماً، و لا ما تحبه النفس خيراً دائماً، وهذه حقيقة تلمسها النفس بالتجربة، وهذا يشير إلى أن الآيات تتدرج مع النفس الإنسانية واقفة على حقائقها، ولا يخفى أن القرآن بعد هذا لا ينسى في تشريعه للجهاد من بيان ما تميل إليه النفس وتحبه وهو النصر والفوز على الأعداء، ويكون فيه شفاء للغليل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، يذكر هنا أن ميادين علم النفس تشير إلى وجود علاقة بين الشعور بالانتصار والسلوك الشخصي لدى الأفراد (كالغبطة والفرح والرضا والسرور) وهذا يطلق عليه (شفاء النفوس) (11).
والنفس بطبيعتها ميَّالة إلى الحصول على منافع مادية ملموسة، ولهذا نجد الآيات تساير النفس الإنسانية في هذا الجانب وتشرع لها بالأخذ من الغنائم وتبيح لها التصرف فيه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41)، و{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69].
هذا كله يجعل نفس القارئ تطمئن إلى دقة قائله، وتستجيب لأوامره وتتأثر به، وتدرك أن هذا كلام رب العالمين، وبهذا ندرك أن هذا الجانب هو أحد مظاهر التأثر بالقرآن الكريم.
وأخيراً يمكننا أن نردد مع القائلين بأنه "ما من امرئ سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم يزعم بعدها أنه لم يتأثر به، أما سرّ ذلك فهو كامن في أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض له القرآن بالهداية وسداد التوجيه" (12).
رابعاً: مخاطبة العقل وإمتاع العاطفة والوجدان (13):
على الرغم من أن هذه النقطة تشترك مع النقطة السابقة وتتداخل معها في بعض جوانبها، إلا أن أنها وحدها جديرة بأن تفرد على أنها أحد أسباب التأثير القرآني.
فالقرآن يخاطب العقل بمنطق قوي وحجة ظاهرة ودليل قاطع، وتراه في الوقت نفسه يخاطب الشعور والوجدان خطاباً يستدرُّ به العطف ويوقظ الإحساس، فلا نجده يغذِّي جانباً ويهمل جانباً، استمع -مثلاً- لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّا
تُصْرَفُونَ} [يونس:31-32]، تجد أنه خاطب القوتين معاً، إذ في النفس الإنسانية قوتان -كما هو معروف- قوة تفكير وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منها غير حاجة أختها، ومع هذا تجد أن القرآن يجمع بين هاتين "كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقاً وأزهاراً وأثماراً معاً، وكما يسري الروح في الجسد، والماء في العود الأخضر.." (14)، والحقيقة هذه لا ينقصها دليل أو برهان فالقارئ لكتاب الله يلمسها في أسلوب القرآن، إذ هي سمة بارزة فيه تارة تخاطب العقل وتسوق له الأدلة والبرهان، وتارة تلهب المشاعر وتخاطب الوجدان. فيشعر المرء بأنه أمام كلام يصل إلى شغاف قلبه ويلامس حاجته فيترك ذلك فيه أثراً لا يفارقه ما دام يتلو آيات الله، ولعل هذا التوازن بين تغذية القوتين سابقتي الذكر هو السبب في ذلك الأثر الذي يحدثه في نفس القارئ.
و لا يغيب عن الذهن أن القرآن لا يتَّجه إلى إثارة العواطف والمشاعر لذات الإثارة، بل لما وراءها من يقظة وانتباه ونظر في جوانب النفس الإنسانية.
يستتبع ذلك صحوة العقل الخامد الكسول فتلتهب شرارة الفكر وتتوقد جذوة الحماس العقلي ويجد الإنسان نفسه في تيه من القلق والشك يملك عليه لبّه، ولا يلبث أن يزداد هذا الشعور بالضيق حينما يجد أن هذا الإحساس قد أطبق على أنفاس الجماعة من حوله وسدّ عليهم كل طريق وبدا بعضهم يراود داخله ويستغرق في تفكيره حتى يهتدي إلى الله.
فالقرآن يثير عواطف البشر، ويوقظ عقولهم في وقت واحد، وبعد الاقتناع يطمئن العقل ويهدأ الإحساس ويشعر الإنسان بنشوة الفرح والارتياح" (15)، وبهذا يمكننا أن ندرك أن القرآن له تأثيره في نفوس مستمعيه يستوي في ذلك مؤمنهم وكافرهم ومعاندهم، لكن مصدر التأثير هذا يختلف فيما بينهم.
فعلى حين نجد تأثيره في المؤمنين تأثير روعة بلاغته ودهشة نظمه وأسلوبه، وفي الكفار والمشركين يملك منهم الأفئدة، ويستولي على القلوب، وفي المعاندين المستكبرين عن الحق دهشتهم وحيرتهم حتى يصفوه بالسحر المبين، فهو مؤثر فيهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
خامساً: محاربة المَلَل والخروج بالنفس من مألوفها:
حين نقبل على كتاب الله ونتلو بعضاً من آياته نجد أن شيئاً ما يجذبنا إليه على الرغم من أننا قد نقرأ الآيات نفسها مرات ومرات إلا أننا نجد جديداً في كل مرة نقرؤها، فعلى الرغم من أن طبيعة النفس الإنسانية إذا ألِفت الشيء خفِي عليها أسراره وصرفها هذا الإِلف عن التفكر فيه ثم اكتشاف ما فيه، إذ النفس مجبولة على هذا، إلاّ أن شأن النفس مع القرآن غير هذا، فهي إن أقبلت عليه تلاوة أو إنصاتاً تجد أن شيئاً ما يجذبها إلى سماعه، فالطبيعة القرآنية تقهر برودة الإلف وطول المعرفة، فهو على ما قيل: "تغلب على مشاعر الملل فيه واحدة بنشاط لا ينفد" (16).
الملاحظ على آيات القرآن الكريم وألفاظه أنها على الرغم من كون الكلمات من جنس ما نعرف؛ إلا أننا لا نعرف الأسرار التي تكمن وراء تأثيرها في نفوسنا، فالشيء قد يكون في إحدى حالاته مألوفاً لا يثير انتباهاً، فإذا أظهر هذا الشيء نفسه في أوضاع أخرى اكتنفته معان شتى، ألا ترى الزخرفة في فن الرسم تتكون من وحدة معينة، لو رأيت صورتها مفردة ما لفتت نظرك، فإذا كررها الرسام بطرق مختلفة برزت معالم الجمال في أنواع من الزخارف تسحر الألباب، ثم إن إلف الشيء قد يُخْفِي ما فيه من أسرار ويصرف عن اكتشافها.
كثيراً ما نتلو آيات القرآن مثلما نتصفح آلاف الوجوه في الطريق، ملامح تراها قد تكون دميمة وقد تكون وسيمة، تمر أشكالها بالعين فما تثبت على أحدها إلا قليلاً وفي ذهول يحجبنا أحياناً عن إدراك إعجازه أنه من جنس ما نعرف، وحروف من جنس ما ننطق، إلا أن طبيعة هذا القرآن لا تلبث أن تقهر برودة الألفة، وطول المعرفة، فإذا كتاب تتعرى أمامه النفوس وتنسلخ من تكلّفها وتصنّعها، ونجد القرآن -كما قهر نوازع الجدل في الإنسان وسكن لجاجته- قد تغلّب على مشاعر الملل فيه وأمده بنشاط لا ينفد.
والقرآن في حديثه للنفس الإنسانية حارب هذا الملل (الركود العاطفي) وعمل على تجديد حياتها بين الحين والآخر، حتى إنه ليمكِّن هذا الإنسان ليستقبل يوماً جديداً..
فأسلوب القرآن يجعل القارئ في يقظة كاملة، وهذا الأمر بلا شك يكمن وراءه أحد أسرار تأثيره في نفوس الناس، إذ ليس لتالي القرآن بعده إلاّ التسليم بأنه تنزيل من حكيم حميد، ولعل في إشارة القرآن المتكررة إلى مسألة التصريف ما يفيد هذه الفائدة. قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} [الإسراء:89]. وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
د. عبدالله الجيوسي