للدكتور محمد عبد الرحمن يونس..((باحت وروائى سورى)).
من الولاة الّذين قدّمتهم حكايات ألف ليلة وليلة تقديماً ساخراً الحجّاج بن يوسف الثّقفي (40-95هـ/660-714م)، فهو ظالم غشوم، يختطف زوجات المسلمين ويقدّمهنّ هدايا لسيّده الخليفة عبد الملك بن مروان، كما تصوّره حكاية » نعم ونعمة «، إذ تكشف الحكاية عن امرأة جميلة اسمها » نعم «، وقد كانت زوجة لـ » نعمة بن الرّبيع «، و » لم يكن بالكوفة جارية أحسن ولا أحلى ولا أظرف منها، وقد كبرت وقرأت القرآن والعلوم، وعرفت أنواع اللّعب والآلات، وبرعت في المغنى و آلات الملاهي، حتى أنّها فاقت جميع أهل عصرها «(1) وكما يشيع خبر جميع النّساء الجميلات في مدن ألف ليلة وليلة فقد شاع خبر جمال هذه المرأة في مدينة الكوفة، فيسمع بها الحجّاج، ويقرّر أن يحتال عليها ويخطفها، ويقدّمها هديّة للخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان.
و لأنّ لعجائز ألف ليلة و ليلة قدرات متميّزة على النصب و الاحتيال، فإنّ الحجّاج يلجأ إلى إحداهنّ لمساعدته في حبك الحيلة، واختطاف » نعم «. يقول الرّاوي(2) » ثمّ استدعى بعجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الرّبيع واجتمعي بالجارية نعم، و تسبّبي في أخذها، لأنّه لا يوجد على وجه الأرض مثلها، فقبلت العجوز من الحجّاج ما قاله «.
وبطبيعة الحال، فإنّ عمليّة اختطاف الجارية سيكون لها مكافأة ماليّة كبيرة يقدّمها الحجّاج إلى القهرمانة ، وهو مستعدّ لتقديم هذه المكافأة، طالما أنّ خطف هذه الجارية سيحقّق له مكافأة أهمّ، وهي زيادة حظوته عند عبد الملك بن مروان، وبالتالي تغاضي هذا الأخير عن عبث الحجّاج بالمجتمع الإسلاميّ، وتنكيله بشرفاء هذا المجتمع، كما هو معروف تاريخيّاً، إذ أسرف الحجّاج في قتل الناس، ولم يرحم شيوخهم وهم على حافّة الموت، بل أمر بضرب أعناقهم كمال فعل مع الشّيخ عمير بن صابئ(3).. وقد أُحصِي من قتله الحجّاج بن يوسف »فوُجِد مائةً و عشرين ألفاً، ومات و في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، (…) و كان يحبس النّساء و الرّجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر النّاس من الشّمس في الصّيف ولا من المطر والبرد في الشّتاء «(4)، مع العلم أنّ جميع هؤلاء القتلى والمساجين » لم يَجِب على أحد منهم قطع ولا قتل «(5).
ويقول راوي(6) الحكاية: » ثمّ إنّ العجوز توجّهت إلى الحجّاج. فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إنّي نظرت إلى الجّارية فرأيتها لم تلد النّساء أحسن منها في زمانها. فقال لها الحجّاج: إن فعلت ما أمرتك به يصل إليك منّي خير جزيل. فقالت له: أريد منك المهلة شهراً كاملاً. فقال لها: أمهلك شهراً «.
وتستطيع القهرمانة خلال هذا الشّهر أن تقدّم نفسها لـ » نعمة بن الربيع « وزوجته » نعم « وأسرته، على أنّها مثال للزّاهدة المتعبّدة، الفانية عمرها في الرّكوع والسّجود والدّعاء والصّوم. وعندما يتأكّد كل من في الدّار أنّهم أمام سيّدة زاهدة، تختلي العجوز بالجارية » نعم « وتقول لها(7): » يا سيّدتي والله إنّي حضرت الأماكن الطّاهرة ودعوت لك، وأتمنّى أن تكوني معي حتى تري المشايخ الواصلين ويدعون لك بما تختارين « . وتنطلي الحيلة عليها، وعلى أمّ زوجها، عندما كان زوجها خارج منزله، إذ تقول » نعم «(
لأمّ زوجها: »سألتكِ بالله أن تأذني لي في الخروج مع هذه المرأة الصّالحة لأتفرّج على أولياء الله في الأماكن الشّريفة، وأعود بسرعة وقبل مجيء سيّدي «. وأمام دهاء العجوز القهرمانة وورعها الزّائف، وتوق الجارية لزيارة الأماكن الشّريفة، اضطرّت الأم لأن تسمح لزوج ابنها بالخروج، وما إن تخرج الزّوجة » نعم « من دارها حتى تسارع القهرمانة بالاحتيال عليها، وأخذها إلى قصر الحجّاج بن يوسف بالكوفة، القصر الذي تظنّه » نعم «، للوهلة الأولى، مكاناً طاهراً يجتمع فيه أهل الذّكر من أولياء الله الصّالحين: »
ثمّ أخذت الجارية بالحيلة وتوجّهت بها إلى قصر الحجّاج، وعرّفته بمجيئها بعد أن أدخلتها في مقصورة، فأتى الحجّاج ونظر إليها، فرآها أجمل أهل زمانها ولم ير مثلها، فلمّا رأته نعم سترت وجهها، فلم يفارقها حتى استدعى حاجبه وأركب معها خمسين فارساً ، وأمره أن يأخذ الجارية على نجيب سابق، ويتوجّه بها إلى دمشق، ويسلّمها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وكتب له كتاباً«(9).
إنّ للعجائز في ألف ليلة وليلة قدرة عجيبة على المكر والإحتيال، إذ تشير حكايات اللّيالي إلى أنّ هذه العجائز اكتسبن في حياتهنّ، و من خلال تعاملهنّ مع رجال عصرهنّ ونسائهنّ، خبرة كبيرة في اصطياد الجواري الجميلات، وتقديمهنّ للرّجال العشّاق، مقابل مكافأة مالية. وكان الرّواة جريئين عليهنّ، فعلى سبيل المثال نجد أنّ أحد الرّواة يصف العجوز شواهي ذات الدّواهي في حكاية » عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان « بالعاهرة(10)، و بـ » سيّدة العجائز الماكرة و مرجع الكهّان في الفتن الثّائرة «(11). وفي حكاية » علي الزيبق المصري ودليلة المحتالة ابنتها زينت النّصّابة «، يصف الرّاوي العجوز دليلة المحتالة بأنّها أخبث من إبليس الذّي كان قد تعلّم المكر منها، فقد كانت » صاحبة حيل وخداع ومناصف وكانت تتحيّل على الثّعبان حتى تطلعه من وكره! و كان إبليس يتعلّم منها المكر ! «(12). والعجوز في حكاية » نعم و نعمة « متقنّعة بثياب الزّهاد، و » في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر و الاحتيال «(13).
ولا تخلو مدينة من مدن ألف ليلة وليلة من العجائز الماكرات والمحتالات، إلاّ أنّه من الملاحظ أنّ أهمّ المدن الإسلاميّة في ألف ليلة وليلة، والتي تجد فيها هذه العجائز مرتعاً خصباً لممارسة عمليّات النّصب والاحتيال، هي بالترتيب: بغداد والقاهرة و دمشق، وبخاصّة في عهدي الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة. ويمكن تفسير ظاهرة النّصب والاحتيال في هذه المدن،بأنّها كانت نتيجة لتفشّي ظاهرة الطّغيان والتسلّط ـ في هاتين الدّولتين اللّتين حكمتا هاته المدن ـ من جهة، وما رافق هذه الظاهرة من ظلم الحكّام وفجورهم وابتعادهم عن هموم شعوبهم ومصائبها من جهة أخرى. ومن هنا كانت الحيلة، في بنيتها العميقة، حيلة ضدّ المظالم، وضدّ المجتمع نفسه، بجميع تشكيلاته الطّبقيّة سياسيّاً واجتماعيّاً.
وتورّط في هذه الحيلة الفقراء والأغنياء، النّساء و الرّجال، رجال السلطة و عامّة الشعب. فالشخصيّة المستلبة المحرومة من لقمة عيشها تحتال لأجل هذه اللقمة، و الأغنياء يحتالون لزيادة ثرواتهم، و الملوك و السلاطين و الخلفاء يحتالون لزيادة جواريهم و أملاكهم، و الوزراء يحتالون على ملوكهم و بناتهم الأميرات الجميلات، و نساء السلطة المتخمات ثراءً و بطراً يحتلن لإشباع متطلباتهنّ الجنسيّة و المحرّمة، و نساء التجار تحتال على أزواجهن للخروج من المنازل و الوصول إلى عشّاقهنّ من الغلمان الظرفاء، و القهرمانة العجوز في حكاية » نعم و نعمة « تجد نفسها مندفعة للتورّط في الحيلة، لأنّها تحقّق من خلالها امتلاك الثروة من جهة، و تأمن شرّ السلطة السياسيّة و بطشها من جهة أخرى، فهي لا تستطيع أن ترفض طلب والٍ ظالم كالحجّاج بن يوسف الثقفي.
و قد أدّى سعار التجديد الجنسيّ عند شخوص ألف ليلة و ليلة في المدن الإسلاميّة، في أحيان كثيرة، إلى ظهور نوع من العجائز المحتالات، و العارفات بفنون الصبوة و العشق و سعار الجسد، و المتخصّصات في خطف النساء، إلاّ أنّ حيل العجائز في الليالي ليست قصديّة، أو ليست موجودة عند هذه العجائز لأنّ لهنّ طاقة عجيبة على الشرّ و المكر، وعلى تعليم إبليس فنون الحيلة كما يرى أحد الرّواة، و كما أشير إلى ذلك سابقاً، بل لأنّ المجتمع الذي عايشته هاته العجائز هو مجتمع التّباين الطّبقي، ومجتمع الذّكور الذي تُحرم فيه النّساء من كثير من امتيازات الرّجال، المجتمع الذّي يلد الرّجال، » أي ما يمكن أن نقول عنه، بأنّ الرّجل يلد الرّجل، والذّكر داخل ابنه الذّكر، واسم الدّم والمنيّ داخل الابن، وحسب هذا النّظام كانت المرأة (…) الجهيض المنحرف و الثّانوي«(14) و من هنا فإنّ حيلة النساء بشكل عام في اللّيالي كانت نتيجة للبنى الاقتصاديّة و الاجتماعيّة والسّياسيّة الفاسدة، التي يشكّلها الحكّام الذّكور، ورجال السّلطة الأقوياء، والتي يُؤذى منها، بالإضافة إلى النّساء، الرّجال الفقراء الفاقدون لجميع وسائل القوّة والملكيّة. ويرى أحد الباحثين أنّ » ظاهرة العجوز [المحتالة] في اللّيالي تجسيد لمعاناة الجواري و الحرائر على حدّ سواء بكل جوانبها المضطربة مما جعل سلوكها في اللّيالي امتداداً للذّات المحرومة فراحت تخطّط لتحقيق آمال تعينها على سحق الحرمان بسلوك كان يعتبره المجتمع السّائد مقبولاً بالإضافة إلى خضوعه للوقائع اليوميّة في ممارسات الحياة «(15).
وبالعودة إلى حكاية » نعم ونعمة « يُلاحظ أنّ الحجّاج لا يعمل على العبث بأمن مواطنيه في الكوفة، وتفريقهم عن أزواجهم، وتهجيرهم قسريّاً عن أوطانهم، ونشر بذور الفساد، وذلك بتشجيع مفاهيم الاحتيال و الاختطاف فحسب، بل هو يكذب على الخليفة عبد الملك بن مروان، ويدّعي أنّه اشترى له الجارية الجميلة » نعم « بعشرة آلاف دينار.
يقول الرّاوي(16): » فتوجّه الحاجب و أخذ الجارية على هجين، وسافر بها وهي باكية العين من أجل فراق سيّدها، حتى وصلوا إلى دمشق، و استأذن على أمير المؤمنين فأذن له، فدخل الحاجب عليه وأخبره بخبر الجارية، فأخلى لها مقصورة. ثم دخل الخليفة حريمه فرأى زوجته، فقال لها: إنّ الحجّاج قد اشترى لي جارية من بنات ملوك الكوفة بعشرة آلاف دينار، وأرسل إليّ هذا الكتاب وهي صحبة الكتاب «.
إنّ سلوك الحجّاج في الحكاية، و هو يخطف النّساء، ويؤسّس لما يهدم القيم الإنسانيّة في المدينة الإسلاميّة، من كذب واحتيال،و تفريق بين المحبّين، وتهجير قسري لهم، ليس غريباً أو بعيداً عن مجمل مواقفه وتصرّفاته التّاريخيّة التي كانت معادية لجميع مفاهيم الحقّ والعدل، والرّحمة بالرّعيّة. وهاهو يعترف بنفسه أنّ فيه كثيراً من العيوب التي تؤكّد معاداتها للمفاهيم الإنسانيّة التي يجب أن يتحلّى بها من يصبح والياً على المسلمين، من خلال حواره الآتي مع الخليفة عبد الملك بن مروان: » وقال عبد الملك بن مروان للحجّاج: إنّه ليس من أحد إلاّ و هو يعرف عيب نفسه، فصِف لي عيوبك.
قال: أعْفِني يا أمير المؤمنين.
قال: لست أفعل.
قال: أنا لجوج لدود حقود حسود.
قال: ما في إبليس شرٌّ من هذا))(17).
ويدين الرّاوي في حكاية » نعم ونعمة « جلاوزة الحجّاج، وصاحب شرطته، إذ يصوّره متقاعساً عن كشف جرائم الاختطاف التي تحدث في الكوفة، ومتواطئاً مع سيّده الحجّاج في التّغطية على خطف » نعم « جارية » نعمة «، إذ بعد أن تُخطف الجارية يشكّ » نعمة « بأنّ الذي خطف جاريته هو صاحب الشّرطة، فيتوجّه إلى داره، ويتوعّده بأنّه سيشكوه إلى الحجّاج إن لم يرجع الجارية له. يقول الرّاوي(18): » ثمّ توجّه إلى صاحب الشّرطة فقال له: أتحتال عليّ وتأخذ جاريتي من داري فلا بدّ لي أن أسافر وأشتكيك إلى أمير المؤمنين. فقال صاحب الشّرطة: ومن أخذها؟ فقال: عجوز صفتها كذا وكذا، وعليها ملبوس من الصّوف وبيدها سُبْحة عدد حبّاتها ألوف. فقال له صاحب الشّرطة: أوقفني على العجوز وأنا أخلّص لك جاريتك. فقال: و من يعرف العجوز؟ فقال له صاحب الشّرطة: ما يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى. وقد علم صاحب الشّرطة أنّها محتالة الحجّاج، فقال له نعمة: ما أعرف حاجتي إلاّ منك وبيني وبينك الحجّاج. فقال له: امضِ إلى من شئت. «. إلاّ أنّ خيبة » نعمة بن الرّبيع « كانت شديدة عندما استمع إلى المسرحيّة الهزليّة التي افتعلها الحجّاج مع صاحب شرطته، طالباً منه أن يبحث عن العجوز المحتالة، وعن الجارية » نعم «، ويعيدها إلى صاحبها: » فقال [الحجّاج]: هاتوا صاحب الشّرطة فنأمره أن يفتّش على العجوز.
فلمّا حضر صاحب الشّرطة قال له: أريد منك أن تفتّش على جارية نعمة بن الرّبيع. فقال له صاحب الشّرطة: لا يعلم الغيب إلاّ الله تعالى. فقال له الحجّاج: لا بدّ أن تركب الخيل وتبصر الجارية في الطّرقات وتنظر في البلدان (…) والطّرقات وتفتّش على الجارية. ثمّ التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعت لك عشر جوارٍ من دار صاحب الشّرطة «(19).
و عندما سمع » نعمة « ما قاله الحجّاج، خرج يائساً وذهب إلى داره، فشاهده والده الرّبيع بن حاتم الذي كان من أكابر أهل الكوفة ووجهائها(20)، وخبيراً عارفاً بأخلاق الحجّاج وتجاوزاته، وتواطؤ صاحب شرطته، وتغطيته لهذه التّجاوزات، وتأكّد أنّ الذي خطف زوج ابنه هو الحجّاج بن يوسف الثّقفي. يقول الرّاوي(21): » وخرج نعمة مغموماً وقد يئس من الحياة، وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب، وانعزل في داره. ولم يزل يبكي إلى الصّباح، فأقبل والده عليه وقال: يا ولدي إنّ الحجّاج قد احتال على الجّارية وأخذها، و من ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده، فتزايدت الهموم على نعمة وصار لا يعلم ما يقول ولا يعرف من يدخل عليه. وأقام ضعيفاً ثلاثة أشهر حتّى تغيّرت أحواله ويئس منه أبواه، ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلاّ الجارية «.
وما إن يصل » نعمة بن الرّبيع « إلى دمشق، لأجل البحث عن جاريته، حتى يكشف السّرد الحكائي عن وجود جاريته » نعم « في قصر عبد الملك بن مروان. وهنالك في قصر الخليفة تنكشف الحقيقة، وتؤكّد أخت الخليفة أنّ الحجّاج كان كاذباً في ما ادّعاه: » فقالت أخت الخليفة: يا أمير المؤمنين إنّ هذه الواقفة هي نعم المسروقة. سرقها الحجّاج بن يوسف الثّقفي وأوصلها لك، وكذب فيما ادّعاه في كتابه من أنّه اشتراها بعشرة آلاف دينار، وهذا الواقف هو نعمة بن الرّبيع سيّدها، وأنا أسألك بحرمة آبائك الطّاهرين أن تعفو عنهما وتهبهما لبعضهما، لتغنم أجرهما، فإنّهما في قبضتك وقد أكلا من طعامك وشربا من شرابك، وأنا الشّافعة فيهما المستوهبة دمهما «(22).
و تؤكّد الحكاية أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان عفا عنهما، ووهبها لبعضهما. وقد يتساءل متلقّي الحكاية: لِمَ تستحلف أخت الخليفة ـ التي لا يذكر الرّاوي اسماً لها ـ أخاها أن يعفو عنهما؟ وما هي الجريمة التي ارتكباها حتى يعفو عنهما؟ و ما جدوى هذا العفو مادام لا يوجد هناك أية جريمة؟. فبحث » نعمة « عن زوجته هو بحث مشروع، ولم يكن متجاوزاً لهيبة الخليفة وسلطاته، مادامت الجارية الأسيرة في قصره هي زوجة رجل من رعاياه كان قد ظلمه الحجّاج والي هذا الخليفة. ولأنّ الرّاوي في هذه الحكاية مؤدلج ضدّ الوالي الظّالم الحجّاج، و متعاطف مع سيّده عبد الملك بن مروان في آن، فقد رأى ضرورة أن يتحلّى أمير المؤمنين بدمشق، بالحكمة والعدل، اللّذين يدفعانه للعفو عن » نعمة « و زوجته » نعم «. وقد اضطّر أن يقول على لسان الخليفة: » لا بأس عليكما فقد وهبتكما لبعضكما«(23). وقد غاب عن إيديولوجية هذا الرّاوي أنّ » نعمة « و » نعم « ليسا مجرمين بحق سلطة عبد الملك بن مروان وسياسته، وأنّ هذا العفو في المحصّلة الأخيرة ليس كرماً من الخليفة، ولا مأثرة من المآثر الّتي يجب أن تُذكَر له، مادام المعفو عنهما مظلومين و مهجّرين من قبل واليه المحتال الحجّاج. ويمكن القول: إنّ أي رجل عادي سويّ جنسيّاً، ومستقيم أخلاقيّاً، لو وُضَع موضع الخليفة عبد الملك بن مروان لكان قد تصرّف مثله، وأرجع » نعم « لسيّدها » نعمة «.
و من الملاحظ، أنّه على الرّغم من أنّ عبد الملك بن مروان تأكّد أنّ واليه الحجّاج قد اعتدى على حرمة المرأة » نعم « وكرامتها، وسلبها حرّيتها بالخطف، وحوّلها إلى جارية مستلبة، وهجّرها قسريّاً من مدينتها الكوفة، وحرمها من زوجها » نعمة «. وسبب تعاسة لهذا الزّوج كادت تفتك به، واجترأ وكذب على الخليفة ـ على الرّغم من أنّه يمثّل أعلى رمز سياسيّ سلطويّ، ودينيّ في الدّولة الإسلاميّة قاطبة، في عهد بني أميّة ـ وعلى الرّغم من كل ذلك ، فإنّ الحكاية تنتهي من دون أن تشير أية إشارة إلى أنّ الخليفة عاقب واليه الحجّاج على جريمته أو أدانه، أو حتّى استدعاه، وسأله: لماذا ينتهك حرمات منازل المسلمين، ويعتدي على حرّيات المواطنين في الكوفة؟. ولقد غاب عن الرّاوي المتعاطف مع نظام السّلطة الإسلاميّة المركزيّة بدمشق، والّتي يمثّلها عبد الملك بن مروان، أنّ انفراج الحكاية على نهاية سعيدة، ينعم بها أبطال الحكاية: عبد الملك بن مروان، و » نعمة « و » نعم «، والطبيب العجمي الذي سافر مع » نعمة « من الكوفة إلى دمشق، حيث » أقاموا في أطيب عيش إلى أن أتاهم هادم اللّذات و مفرّق الجماعات (24)«، ليس شرطاً أن يشكّل حالة سعيدة، أو أدنى مستوى من مستويات العيش الطّيب عند مواطني الكوفة الّذين يتعرّضون لمزيد من ظلم الحجّاج و انتهاكاته لحرمات منازلهم، طالما أنّ الخليفة تجاوز عن جريمة الحجّاج ولم يعاقبه عليها، وطالما أنّه ما دام قائماً على رأس السّلطة السّياسيّة والدّينيّة في الكوفة.
ويشير المؤرّخون، إلى أنّ الحجّاج بقي والياً للخليفة عبد الملك بن مروان، طوال استلام هذا الأخير لمنصب خلافة المسلمين في دمشق الأمويّة، ولم يعزله عن العراق أو يسجنه أو يعاقبه العقاب الرّادع الّذي يجعله يكفّ عن أذى المسلمين و سجنهم وسفك دمائهم، على الرّغم من معرفته الأكيدة بما سبّبه واليه الحجّاج للمسلمين من أذى و مصائب، وتقتيل وتنكيل، لأنّه هو الّذي سلّطه على النّاس(25)، وأطلق يده فيهم، وسمح له برمي الكعبة بالمنجنيق(26). وربّما كان قد آلمه أسلوب القتل والتّنكيل الّذي انتهجه الحجّاج، لأنّه عندما بلغه أنّ الحجّاج قتل الشّاعر عمران بن عصام العنزي(27) وابن الأشعث(28)، استنكر قائلاً: » قطع الله يد الحجّاج«(29). ومات عبد الملك بن مروان سنة 86هـ/705م، واستلم ابنه الوليد بن عبد الملك مقاليد الحكم، وظلّ الحجّاج والياً في عهده، منتهجاً السّياسة التي انتهجها في عهد أبيه عبد الملك، من سجن وترهيب وقتل، إلى أن مات سنة خمس وتسعين هجرية، في مدينة واسط العراقيّة(30).
وبعد موته، يتأمّل الخليفة الأمويّ سليمان بن عبد الملك (96 ـ 99هـ/715 ـ717م)، ما جرى للّذين ظلمهم الحجّاج، ويسأل كاتبه يزيد بن أبي مسلم بعد أن » ازدراه ونبت عينه عنه «(31)،عن مصيره قائلاً: » أتظنّ الحجّاج استقرّ في قعر جهنّم أم هو يهوي فيها «(32)، ويجيبه الكاتب قائلاً: » يا أمير المؤمنين، إنّ الحجّاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النّار حيث شئت «(33) .
إنّ الحجّاج بن يوسف الثّقفي في حكاية » نعم ونعمة « يظلم » نعمة « ويخطف جاريته، وصاحب شرطته يتغاضى عن هذا الظّلم، والخليفة عبد الملك بن مروان يتغاضى عن ظلمهما معاً. وهكذا تتسلسل حلقات المظالم، لتتشابك فيما بينها، وتشكّل حلقة واحدة متماسكة، يستحيل على الأفراد البسطاء في مدن ألف ليلة وليلة الأمويّة أو العبّاسيّة، أو الأسطوريّة، أن يخترقوها، أو يهربوا من قبضتها . وتذكّرنا هذه الحلقة من المظالم بهذه السّلسلة من الخيانات التي تتحكّم في بنية النّظام الأمويّ، من قاعدته حتى رأسه ، وتنخره وتملؤه شرّاً وفساداً، والتي يذكرها ابن عبد ربّه الأندلسيّ(34) قائلاً: » اطّلع مروان بن الحكم(35) على ضيعة له بالغوطة فأنكر منها شيئاً، فقال لوكيله: ويحك! إنّي لأظنّك تخونني.
قال: أفتظنّ ذلك ولا تسْتَيقِنُه؟.
قال: و تفعله؟.
قال: نعم، والله إنّي لأخونك، و إنّك لتخون أمير المؤمنين، و إنّ أمير المؤمنين ليخون الله، فلعن الله شرّ الثلاثة «.
و يتفق رواة ألف ليلة و ليلة، في الحكايات التي ذكرت الحجّاج بن يوسف الثقفي، على أنّه أهمّ ممثلي الولاة الظلمة و الاستبداديين الذين ذكرتهم الليالي، و رسمت ملامحهم، تأسيساً على الأدبيّات التاريخيّة التي ساعدت رواة الليالي على تشكيل حكاياتهم، أو نقلها بتحويرات طفيفة جدّاً. ففي حكاية » رجل من الحجيج مع المرأة العجوز « ينقل الراوي بعض ما قرأه من آراء الفقهاء في ضرورة وجود السلطان في الأمّة، حتّى و لو كان هذا السلطان جائراً، و يقول(36): » و في الأمثال: جور السلطان مائة سنة و لا جور الرعيّة بعضهم على بعض سنة واحدة، و إذا جارت الرعيّة، سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً، و ملكاً قاهراً «.
و لكي يؤكّد الراوي أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي كان جائراً في سياسته على مواطنيه في العراق، فإنّه يُثبّت الرأي الفقهي السابق بوصفه مدخلاً، يستطيع من خلاله أن يُثبّت إيديولوجيته المعادية للحجاج، هذه الإيديولوجيّة التي تتبنّى في آن النظرية الفقهيّة السابقة التي دعا إليها بعض الفقهاء(37). و من خلال المدخل الفقهيّ السابق يثبت راوي الحكاية آراء الحجّاج بن يوسف التي يعتمدها منهجاً له في رسم سياسته الجائرة، و من ثمّ ليشير إلى استنكار الناس لهذه السياسة البعيدة عن تقوى الله و مرضاته: » ورد في الأخبار أنّ الحجّاج بن يوسف رُفِعت إليه في بعض الأيام قصّة مكتوب فيها: اتقّ الله و لا تجر على عباد الله كلّ الجور. فلمّا قرأ القصّة رقي المنبر و كان فصيحاً فقال: أيّها الناس إنّ الله تعالى سلّطني عليكم بأعمالكم فإن أنا متّ فأنتم لا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيّئة لأنّ الله تعالى خلق أمثالي خلقاً كثيراً و إذا لم أكن أنا كان من هو أكثر منّي شرّاً و أعظم جوراً و أشدّ سطوةً كما قال الشاعر في معنى ذلك:
و لا ظالـــم إلاّ ســــيبـلى بأظلـــــم «(38). و ما من يد إلاّ يد الله فوقها
و إذا كان الحجّاج يُسوّغ لنفسه جوره وساديته، و تنكيله بعباد الله في المدن الإسلاميّة التي يحكم أمرها، لأنّ لهؤلاء العباد مواقف رافضة و معادية لسياسته الدمويّة، فإنّه في نهاية المطاف لا يمثّل إلاّ وجه المستبدّ الظالم، الذي يقف وراءه نظام سياسيّ اكثر استبداداً و ظلماً منه، ليعزّز بطشه، و يُسوّغ له سياسته الساديّة المعادية لأفراد شعبه، فـ » الحكومة المستبدّة تكون طبعاً مستبدّة في كلّ فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطيّ إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع؛ و لا يكون كلّ صنفٍ إلاّ من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأنّ الأسافل لا يهمّهم طبعاً الكرامة و حسن السمعة، إنّما غاية مسعاهم ان يبرهنوا لمخدومهم بأنّهم على شاكلته (…) و لهذا لا بدّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمّة، ثمّ من دونه دونه لؤماً وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه «(39).
وتاريخيّاً تشير المصادر إلى أنّ السياسة التي كان ينتهجها الحجّاج كانت تتأسّس على خطاب استبدادي قامع، يرتكز في بنيته الأساسيّة على تهديد أهل العراق والتنكيل بهم، والسخرية منهم، حتى يستطيع إذلالهم وتسخيرهم، وليّ هاماتهم أمام سطوة النظام السيّاسيّ الذي يمثّله، فمنذ أن وصل الكوفة دخل المسجد الجامع فيها، واعتلى المنبر وخطب:
» والله إنّي لأرى رؤوساً أينعت وقد حان قطافها وإنّي لصاحبها، وإنّي لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى، والله يا أهل العراق إنّ أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مكسراً فرماكم بي، لأنّكم طالما أثرتم الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضّلال، والله لأنكّلنّ بكم في البلاد ولأجعلنّكم مثلاً في كل واد، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، وإنّي يا أهل العراق لا أعد إلا وفيت، ولا أعزم إلاّ أمضيت (…) فاستوثقوا واستقيموا واعملوا ولا تميلوا وتابعوا وبايعوا، واجتمعوا، واستمعوا، فليس منّي الإهدار و الإكثار وإنمّا هو هذا الِسّيف«(40) .
ولقد كان الحجّاج، في ما بعد، وفيّاً بوعده، إذ أعمل السّيف في أهل العراق وذبح رجالهم وشيوخهم، وسجن نساءهم واستأصل أموالهم(41) . وهاهو يعترف أمام خالد بن يزيد بن معاوية(42) ذاكراً عدد الذين قتلهم كما يروي أبو الفرج الأصفهاني(43): » قدم الحجّاج على عبد الملك [بن مروان] فمرّ بخالد بن يزيد بن معاوية ومعه بعض أهل الشّام، فقال الشّامي لخالد: من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجّاج فقال: إنّي والله ما أنا بعمرو بن العاص، ولا ولدت عمرواً ولا ولدني ولكنّي ابن الغطاريف(44) و العقائل(45)، من قريش، ولقد ضربت بسيفي أكثر من مائة ألف كلّهم يشهد أنّك و أباك من أهل النّار، ثمّ لم أجد لذلك عندك أجراً ولا شكراً «.
ويقدّم أحد الرّواة الحجّاج في حكاية » الحجّاج بن يوسف الثّقفي مع هند بنت النّعمان « تقديماً ساخراً. إذ يجعل زوجته هند بنت النعمان تجترئ عليه وتصفه بالكلب وتبدي فرحها الشّديد بتطليقه لها، فعندما أراد الحجّاج طلاقها: » بعث إليها عبد الله بن طاهر يطلّقها، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، وقال لها: يقول لك الحجّاج أبو محمّد إنّ لك عليه من باقي الصَّدَاق مائتي ألف درهم، وهي هذه حضرت معي وقد وكّلني في الطّلاق فقالت: اعلم يا ابن طاهر أنّنا كنّا معه والله ما فرحت به يوماً قط، وإن تفرّقنا والله لا أندم عليه أبداً، وهذه المائتا ألف درهم لك بشارة خلاصي من كلب بني ثقيف «(46). ومن شدّة احتقارها له فإنّها عندما تتأمّل نفسها في المرآة ترى أنّها مهرة عربيّة وأنّ زوجها الحجّاج بغل لا يستحقّها، وتعتقد أنّ سلالتها الصافية النقيّة هي القادرة على إنجاب الأولاد المتميّزين عرقاً وأصالة، وفي حال أنّ هذه السّلالة عجزت عن إنجاب هؤلاء الأولاد فإنّ السّبب الرئيس في ذلك يعود إلى خسّة الحجّاج، ودونيّة منزلته، وسلالته غير القادرة على إنجاب المتفوّقين بيولوجيّاً وعرقيّاً، تقول(47):
سلالة أفراس تخلّلها بغل
وإن ولـــــــدت بغــــلاً فجـــاء به البغـــل « » و ما هند إلاّ مهرة عربية
فـــــــإن ولــــــدت فحـــلاً فللّـه درّهــــــــــا
وعندما يسمع الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان بحسنها وجمالها، يرسل إليها راغباً الزّواج بها، فتكتب إليه محتقرةً زوجها السّابق ـ الحجّاج ـ: » الثّناء على الله والصّلاة على نبيّه محمّد صلّى الله عليه و سلّم، أمّا بعد، فاعلم يا أمير المؤمنين أنّ الكلب ولغ في الإناء«(48). و يرسل إليها مؤكّداً رأيها في الحجّاج و محتقراً له، من خلال استناده إلى حديث من أحاديث رسول الله (ص). يقول الرّاوي(49): » فلمّا قرأ كتابها أمير المؤمنين ضحك من قولها، وكتب لها: قوله صلّى الله عليه و سلّم » إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهنّ بالتراب « وقال اغسلي القذى عن محلّ الاستعمال «.
و من ملامح احتقار الخليفة عبد الملك بن مروان لعامله الحجّاج أنّه يرضى بالشرط الذّي اشترطته هند على الخليفة حتّى تقبله زوجاً، فقد اشترطت عليه ما يلي: » بعد الثّناء على الله تعالى يا أمير المؤمنين إنّي لا أجري العقد إلاّ بشرط فإن قلت ما الشّرط، أقول: أن يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون حافياً بملبوسه الّذي هو لابسه «(50). ويوعز لللحجّاج أن يقود محملها من بلدها معرّة النعمان إلى مدينة دمشق مقرّ الخلافة، فيمتثل الحجّاج للأمر(51)، و يسافر من العراق إلى بلدها معرّة النعمان(52) ليقود محملها إلى دمشق حافياً ذليلاً. وبقدر ما يبدو شرط هذه المرأة سخيفاً و متسلّطاً وفاقداً لأبسط مفاهيم القيم الإنسانيّة والجماليّة، في علاقات الزّواج في المدينة الإسلاميّة، يبدو قبول الخليفة عبد الملك بن مروان بهذا الشّرط احتقاراً ومهانة لعامله الحجّاج، وبخاصة عندما يمشي حافياً أمام محمل زوجته السّابقة، وهي تتشفّى منه محتقرةً. يقول الرّاوي(53): » فلمّا ركبت المحمل وركب حولها جواريها وخدمها ترجّل الحجّاج و هو حافٍ وأخذ بزمام البعير يقوده وسار بها! فصارت تسخر منه وتهزأ به وتضحك عليه مع بلاّنتها و جواريها «. هذا إذا عرفنا أنّ المسافة التي يجب على الحجّاج أن يقطعها حافياً، و هي ما بين معرّة النعمان ودمشق، تقدّر بحوالي أربعمائة كيلومتر.
وليس غريباً أن يقبل عبد الملك بن مروان بشرط هذه المرأة حتّى ترضى به زوجاً بعد أن سلب منه كرسيّ السّلطة حبّه للعلم والمعرفة، والقيم الأخلاقيّة الإنسانيّة التي دعا إليها النّص القرآني، إذ يُروى عن هذا الخليفة أنّه كان » قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة، وكان يُسمّى حمامة المسجد، لمداومته على قراءة القرآن. فلمّا مات أبوه وبُشّر بالخلافة أطبق المصحف وقال: هذا فراق بيني وبينك. وتصدّى لأمور الدّنيا. وقيل إنّه قال يوماً لسعيد بن المسيّب: يا سعيد قد صرت أفعل الخير، فلا أُسرّ به وأصنع الشّر فلا أُساء به. فقال له سعيد ابن المسيّب: الآن تكامل فيك موت القلب «(54).
إنّ هذا الشّرط الغرائبيّ الذي اشترطته هند على الخليفة، وقبوله به لا يعني إلاّ شذوذاً وانحرافاً في التفكير والسّلوك، يسعى صاحبه إلى تحقيق رغبة استبداديّة ساديّة من رغبات الخلفاء و نساء السّلطة في مدن ألف ليلة وليلة، إذ تغيب ظاهرة الحلم والعفو عند هؤلاء ليحلّ محلّها سلوك مستبّد يُرضي طموح ذات سلطويّة مريضة، لا ترى في شعبها إلاّ قطيعاً مهمّته أن يظلّ منقاداً لها، و » كما تقضي الطّبيعة بأن يقود الرّاعي قطيعه، و يتصرّف به، وبأن يستجيب القطيع لراعيه ويتبعه، تقضي بأن يقود الحاكم شعبه، أي رعيّته، ويتصرّف به، وبأن يطيع الشّعب حاكمه، أي راعيه، ويتبعه (…) ففي النهاية لا يبحث الرّاعي إلاّ عن مصلحته ولذّته، ومصير القطيع لا يتعدّى تغذية صاحبه «(55).
إنّ الحجّاج في نهاية المطاف مجبرٌ على أن يلبّي مطالب الخليفة عبد الملك بن مروان، مهما كانت قاسية عليه، و مهينة له، لأنّ تلبيته لهذه الأوامر هي الكفيلة ببقائه في منصبه السّلطويّ المتميّز. و إذا كانت سيرة الحجّاج التاريخيةّ وصمة في جبين الخلافة الأمويّة، وصفحات هذه السّيرة في ليالي ألف ليلة وليلة سوداء ملطّخة بسرقة نساء المسلمين، والتّحايل عليهنّ، والاعتداء على حرّياتهنّ الشّخصيّة، كما أشير إلى ذلك(56). فإنّ هذه السيرة ـ ووفق المنطق الإنساني و العقلاني ـ لا تُسوّغ للخليفة عبد الملك بن مروان إذلاله واحتقاره لواليه الحجّاج، وإجباره على أن يمشي حافياً من معرّة النعمان إلى دمشق، إرضاءً لرغبة امرأة جميلة، يشتهيها، لمجرّد أنّه سمع بجمالها الأخّاذ . فالحجّاج طلّق هند بنت النّعمان، مثلما يطلّق أيّ رجل امرأته و أعطاها مهرها، استناداً إلى نصوص تجيز له ذلك، مستمدّة من تشريعات النّكاح الإسلامي ـ بناؤه وهدمه ـ و لا تشير الحكاية بأيّة إشارة إلى أنّ الحجّاج عندما طلّق زوجته أهانها أو احتقرها، ومع ذلك أهانه سيّده عبد الملك بن مروان شرّ إهانة، إرضاءً لرغبة هذه المرأة المستبدّة.
و من مظاهر احتقار هذه المرأة لزوجها الحجّاج، كما يقول الرّاوي(57): إنّها » لم تزل تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة فلمّا وصلت إلى البلد، رمت من يدها ديناراً على الأرض وقالت له: يا جمّال إنّه سقط منّا درهم! فنظر الحجّاج إلى الأرض فلم ير إلاّ ديناراً، فقال لها: هذا دينار، فقالت له: بل هو درهم، فقال لها: بل هو دينار، فقالت: الحمد لله الّذي عوّضنا بالدّرهم ديناراً، فناولني إيّاه فخجل الحجّاج من ذلك «. ويمكن القول، تأسيساً على سلوك عبد الملك بن مروان مع واليه الحجّاج: إنّه لا أمان لأيّ رجل في مدن ألف ليلة وليلة، مهما كان عالي القدر، في ما إذا كان متزوّجاً من امرأة جميلة، سمع بها الخليفة واشتهاها، على الرّغم من طلاق هذا الرجل لهذه المرأة في ما بعد. وعلى سبيل المثال: لقد عبّرت إحدى جواري ألف ليلة وليلة في بغداد عن خوفها على حياة حسن البصريّ، في ما إذا سمع الخليفة هرون الرشيد بجمال زوجته منار السنا وسحرها. و حذّرت سيّدتها زبيدة من أن يسمع الخليفة بجمال هذه الزوجة، قائلةً(58): » و حقّ نعمتك يا سيّدي إن عرف بها أمير المؤمنين قتل زوجها و أخذها منه، لأنّه لا يوجد مثلها واحدة من النساء و قد سألت عن زوجها، فقالوا إنّ زوجها رجل تاجر اسمه حسن البصري (…) و أنا أخاف يا سيّدي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع و يقتل زوجها و يتزوّج بها! «.
و إذا كان الخليفة عبد الملك بن مروان في حكاية » الحجّاج بن يوسف الثقفي مع هند بنت النعمان « قد أهان أهمّ رموز سلطته – واليه الحجاج ـ إرضاءً لرغبة طليقته، فكيف تكون حال الرجل العادي في دولة الخلفاء، فيما إذا رغبت طليقته الجميلة في إذلاله، و بخاصّه إذا كانت هذه الطليقة الجميلة عشيقة لأحد الخلفاء أو الأمراء؟. بلا شكّ يمكن أن يُغتال، أو يُسجن أو يُنفى، فيما إذا رغبت هذه الطليقة الانتقام منه، لأنّ الرعيّة في دول خلفاء و ملوك ألف ليلة و ليلة مجبرة على أن تكون مملوكة لهؤلاء الخلفاء و الملوك، و عاجزة عن أن تقول لهم: لا، فيما إذا اعتدوا عليها و على أملاكها، فـ » العلاقة بين الحاكم و المحكوم (…) ليست أكثر من علاقة بين مالك و مملوك، فالحاكم يملك رعيّته و الرعيّة ملك لحاكمها، و الحكم مُلك، أو نوع من أنواع الملك «(59).
و إذا كان الخليفة عبد الملك بن مروان قد عاقب واليه الحجّاج هذه العقوبة المهينة والمشينة، في الحكاية السابقة، على الرغم من عدم خطئه، فإنّه في حكاية » نعم و نعمة « لم يعاقبه على الرغم من خطئه الفادح باحتياله على » نعم « و سرقتها، و السفر بها إلى دمشق، و تقديمها له هدية، وكذبه عليه. و هنا يبدو موقف الخليفة طبيعيّاً، لأنّ الحجّاج وظّف انتهاكاته للحرمات في حكاية » نعم و نعمة « من أجل إرضاء الخليفة عبد الملك بن مروان، فالخليفة مسرور منه لأنّه أرسل إليه تلك المرأة الحسناء » نعم «. أمّا في
حكاية » الحجّاج مع هند بنت النعمان « فإن مصلحة الخليفة تقتضي أن يذلّ واليه الحجاج لكي ترضى به الحسناء الأخرى ـ هند بنت النعمان ـ زوجاً لها. إنّ الآليّة الذهنيّة و السلوكيّة التي ينطلق منها الخلفاء ـ في ألف ليلة و ليلة ـ في قراراتهم و طبيعة أحكامهم تهدف ـ بالدرجة الأولى ـ إلى تحقيق مصالحهم، و طموحاتهم، و غاياتهم، و ملذّاتهم(60).
و يبدو أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان في النصوص التاريخيّة، كان يعرف أنّ واليه الحجّاج ظالم و سفّاك، و كان يحتقره على الرغم من أنّه يده الطولى التي كانت تفتك بجميع معارضي نظام حكمه، و توجّهاته السياسيّة. و لأنّه كان اليد الفاتكة بخصومه، فقد أبقاه والياً على العراق إلى حين وفاته ـ وفاة عبد الملك بن مروان ـ. و ها هو يكتب إليه محذّراً من استفحال ظلمه و تجاوزاته، و استيلائه على أموال الناس، و إسرافه في عقوبتهم، و سفكه لدمائهم: » أمّا بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سَرَفُك في الدماء، و تبذيرك في الأموال، و لا يحتمل أمير المؤمنين هاتين الخصلتين لأحد من الناس، و قد حكم عليك أمير المؤمنين في الدماء: في الخطأ الديّة، و في العَمْد القوَدُ(61)، و في الأموال ردّها إلى مواضعها، (…) و سيأتيك من أمير المؤمنين أمران: لينٌ و شدّة فلا يؤنسنّك إلاّ الطاعة، و لا يوحشنّك إلاّ المعصية، و ظُنّ بأمير المؤمنين كلّ شيء إلاّ احتمالك على الخطأ، و إذا أعطاك الظفر على قوم فلا تقتلنّ جانحاً و لا أسيراً، و كتب في أسفل كتابه:
و تطلب رضائي بالذي أنا طالبه
فإنّك مَجزِيّ بما أنت كاسبه «(62).
(…)
إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها
فلا لا تلمني و الحوادث جَمّة
و على الرغم من معرفة عبد الملك بن مروان بسلوك واليه الحجّاج الدمويّ، فإنّه كان يرفض أن يُذَمّ أمامه، بل كان يدافع عنه و يوبّخ من يذكره بسوء. و يُروى أنّ إبراهيم بن محمد بن طلحة الذي كان من خاصّة الحجّاج، و ذا منزلة عظيمة عنده، قدم إلى عبد الملك بن مروان، و طلب منه أن يستمع إلى نصيحته التي لا يجد بُدّاً من ذكرها، فسمح له عبد الملك ابن مروان قائلاً: » يا بن طلحة، قل نصيحتك. فقال: تالله يا أمير المؤمنين، لقد عَمَدت إلى الحجّاج في تغطرسه و تَعجْرُفه و بعده من الحقّ و قربه من الباطل، فوليّته الحرمين(63)، و هما ما هما و بهما ما بهما من المهاجرين و الأنصار و الموالي الأخيار يَطؤهم بطَغام(64) أهل الشام، و رَعَاع لا رويّة لهم(65) في إقامة حقّ و لا في إزاحة باطل، و يسومهم الخَسْف(66) و يحكم فيهم بغير السنّة، بعد الذي كان من سَفْك دمائهم، وما انتُهك من
حُرَمِهم (…)، فقال له عبد الملك كذبْتَ (…) و ظنّ بك الحجّاج ما لم يجده فيك، و قد يُظنّ الخير بغير أهله، قمْ فأنت الكاذب… «(67).
و يبدو أنّ سيرة الحجّاج الدمويّة كانت محلّ استهجان و ذمّ عند معظم الفقهاء و المؤرخين الإسلاميّين. و يُروى أنّه » قيل للشعبيّ(68): أكان الحجّاج مؤمناً؟ قال: نعم بالطاغوت. و قال: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها، و فاسقها، و جئنا بالحجّاج وحده لزدناه عليهم و الله أعلم «(69). وها هو الدمّيريّ يذمّ الحجّاج قائلاً(70): » اللعين الحجّاج أخزاه الله و قبّحه«.
((منقول))
مصدر الموضوع سيرة الحجاج بن يوسف الثقفى فى الف ليلة وليلة ملامح الاستبداد والطغيان - منتديات الهندسة نت
http://www.alhandasa.net/forum/showthread.php?t=79575#ixzz1ElXE9SVn